إمبراطورية الفرس


 

كانت هناك حضارة عظيمة أخرى، لها راوبط مباشرة مع العرب، وهي حضارة الفرس  في عهد الساسانيين الذين اعتلوا الحكم في أوائل القرن الثالث. ومدوا في فترات مختلفة نفوذهم إلى الشمال والشرق والغرب، ولكنهم اضطروا فيما بعد إلى الرجوع إلى معاقلهم الأصلية. لي واجهوا العديد من الخصوم، وخصوصا منهم البيزنطيين" والهون البيض" -  بعدة فترة من الإشعاع الحضاري دامت قرنين (421-224) وتميزت بولاية أباطرة عظام. دخلت بلاد الفرس في دوامة العنف و الصراع. وكان كالعادة من تدبير الاقطاعيين ولم يستتب الأمر فيها إلى على يد مجموعة من العرب من يمنيي الحيرة الذين نصبوا في الحكم "فاهرام" أحد أبناء "يازدكاريد" باسم فاهرام الخامس. وكان الذي ربى فاهرام هذا وأعده لتولي الحكم منذ الصغر هو الأمير العربي قائد هذه المجموعة اليمينية، وكان فاهرام الخامس شاعراً شغوفا بالموسيقى والفن. كما كان عطوفا لين العريكة مما بوأه مكانه خاصة بين الشعب، إلا أنه سرعان ما تحول إلى طاغية متعصب للزراديشتية. مشاكس لأتباع الديانات الأخرى، وقد طالب فاهرام" بيزنطة بإرجاع المسيحيين الذين فروا إليها هروبا من الاضطهاد الذي كان يممارسه عليهم. فشب على إثر ذلك نزاع جديد بين الأمبراطوريتين انتهى بهزيمته.

وبعد وفاة" يازكاريد" الأول واصل ابنه يازكاريد الثاني سياسة التعصب والاضطهاد ضد المسيحيين واليهود الذين منعهم سنة455 من إقامة عطلة السبت وتابع خلفه "بيروز" الذي اعتلى العرش بتأييد من الزعماء الزرداتشيين" نفس السياسة فكان يناوئ اليهود. ويثير البلبلة والتفرقة بين المسيحيين، إلى أن قتل أثناء المعركة الثانية التي خاضها الساسانيين فيما بينهم ومع جيرانهم طيلة القرن السادس قفزة نوعية جديدة، حققت خلالها نوعا من الاستقرار، وتمكنت الدولة من الإمساك بزمام الأمور، وخاصة في عهدي "خوسرو" الأول المدعو الروح الخالدة" 531-579" وهورميزد"الرابع الملقب ب العادل 579-590- وقد بلغت دولة الساسانيين أوجها في عهد خوسرو الثاني الذي وصل إلى سدة الحكم بتأييد من بيزنطية، وهو أمر غريب يكشف عن التقاليد والعادات السائدة آنذاك، وقد تربع خوسو على العرش خلفا لفهرام" السادس، وتم له ذلك بمساعدة الإمبراطورية" موريس "فالتزم مقابل ذلك أن يتخلى لبيزنطة عن بعض المدن وعن جزء من أرمينيا، إلا أنه ما لبث بعد بضع سنوات 602 أن استأنف الحرب ضد أنصاره السابقين. واستطاع في ظرف عشرين سنة أن ينتزع منهم الحزء الأكبر من منطقة نفوذهم، انطلاقا من البوسفور إلى تخوم الحبشة، بل استطاع أن يضرب الحصار على مدينة القسطنطينية ذاتها، وكان يعتبر نفسه في تلك الفترة رجلا خالدا بين الآلهة، وإلاها عظيما بين الرجال، وذا الصمت اللامع الذي يستيقظ مع طلوع الشمس ويسلم عينيه لليل" وقد مات مغتالا سنة 628 على يد ابنه. فكيف كانت حضارة الفرس في ظل هذا الاهتزاز؟ وكيف عرفت هذا التراجع، وفي الوقت الذي حل فيه النبي محمد عليه السلام بالمدينة المنورة؟؟. - إذا كانت دولة الساسانيين قد جددت فعلا التراث الفارسي بعد تراجع أمبراطورية داريوس" وتفكيك أوصالها لمدة خمسة قرون

وذلك إثر غزوها تحت قيادة الإسكندر العظيم، فإنه يصعب مع ذلك الجزم بأن الأعمال التي أنجزها الساسانيون كانت تحمل في ثناياها قيما حضارية بالمعنى الانسي للفظ والحضارة. فقد بلغ الاقطاعيون أعلى درجات اليأس والبطش، وكانوا يشكلون الخصوم الألداء للأباطرة، حيث كانوا يتدخلون في أمور الخلافة ويخضعون الشعب لظروف عيش لا إنسانية، أما الملوك فلم يستقر إيمانهم على شيئ ، إذا كانوا يغيرون معتقداتهم الوثنية حسب تقلبات الظروف والأحوال. وإذا ما تسامحوا مع أهل الكتاب فقد كانوا دوما متربصين أوهى الذرائع للإيقاع باليهود والنصارى واضطهادهم و التنكيل بهم، وهكذا قتلوا المآت من أتباع الديانتين وأخذوا البعض منهم رهائن للمساومة مع بيزنطة والضغط عليها، كما تفاقم الانشقاق بين المسيحيين بسبب الدعم الذي قدم "للنسطورين" ضد المناصرين 'لوحدة طبيعة المسيح' والذي كان يرمي فقط لإضعاف الطائفتين. - وتمادى هذا التلاعب بالمعتقدات الروحية لأغراض سياسية، إلى أن بلغ أوجه في أواخر القرن الخامس، لما تحالف الملك "كافاد" مع طائفة المازدكيين الملحدين الذين كانوا يطالبون الأغنياء باقتسام ثرواتهم مناصفة من ممتلكات ونساء وماء ومراعي، مع من لاثروة لهم، وظلوا يساعدون الملك كافاد " على تعزيز نفوذه إلى أن طرح موضوع خلافته فتفجرت الاضطرابات الشعبية التي تمثلت في نهب المنازل وخطف النساء، وإشاعة الفساد في الأرض، وأمام ذلك جمع الملك كافاد" ممثلين عن الزرداتشيين و المسيحيين والمازدكيين لإيجاد مخرج للمأزق وانتهت المشاورات إلى تحالف الزرداتشيين مع المسيحيين ضد المازدكيين الذين تولى قتلهم الحرس الملكي، حيث كان قد تعبأ من قبل في حالة استنفار وتربص لمواجهة الطوارئ.

وبالرغم مما خلفه الملك الاقطاعيون من منجزات براقة للتباهي والتفاخر فيما بينهم، فإنه من الصعب تصنيف تجارب العصر الساساني الحضارية ضمن تلك التي ساهمت في تقدم قضايا الإنسانية، لأن جميع اهتمامات الحاكمين كانت تصب في اتجاه تكديس الثروات المادية دون التورع عن استغلال الشعوب وابتزازها واستبعادها  وكانت الديانات التوحيدية تحارب كما كان أتباعها يضطهدون واتخذت الوثنية أشكالا عديدة، وتكاثرت معابد النار وانتشرت الطوائف كما افتقدت الأسر انسجامها، وأصبح للأباء الحق الكامل في قتل أبنائهم وفي التزوج من بناتهم، أما النساء فكن تعتبرن مجرد بضاعة يقتسمها الرجال كما كان ينص على ذلك المذهب المازدكي.

 (من كتاب حقيقة الإسلام).

الباحث عبد العزيز الصغيار.

تعليقات