حلت الكنيسة المسيحية، ابتداء من القرن
الثالث، محل السلطة الإمبراطورية على مستويات عديدة. استفاد الباحثون من المؤلفات
التي انتصرت للدين المسيحي، من أخبار شهداء النصارى، من وثائق المجامع الكنيسة، من
القوانين الإمبراطورية ذات الطابع الديني، لسبر أعماق روح الأفارقة، ومعرفة مدى
تعلقهم بالكثلكة وخصائص كنيستهم المحلية. تصور لنا مؤلفات النصارى الأفارقة مسيرة
الكنيسة، كانت أيام ترتوليان(
245-160) تعارض السلطة الرومانية معارضة عنيفة، إلى حد رفض الانخراط في
الجندية، ثم انتهت أيام
أغسطين(430-354) إلى التفاهم والتعايش معا. فأصبحت كل من السلطتين، المدنية
والدينية، تعترف بنفوذ الأخرى المطلق داخل النطاق المحدد لها.
يعتقد جل المؤرخين المعاصرين أن الدعوة إلى
الدين الجديد بدأت أثناء القرن الثاني داخل جماعات شرقية في المدن الساحلية. ثم
نقلها الجنود إلى المدن الداخلية الصغيرة، وقوة الإمبراطورية في أوجها واستغلال
شمال أفريقيا على أشده، مهما يكن أمر دور الطبقات الفقيرة، المدنية و الريفية في
نشر تعاليم النصرانية، فما لا شك فيه هو أن المسيحيين كانوا آنذاك يعادون سلطان
روما، وأن الأساقفة المغاربة كانوا يميلون إلى الاستقلال ويرفضون سيطرة أسقف عاصمة
الإمبراطورية عليهم. حين تصالح قادة الكنيسة الإفريقية مع الإمبراطور بقيت الرعية
وفية لما تعودت عليه من استقلال ومن حماس للاستشهاد ومن عداء للطاغية الدجال، حاكم
روما
تهافت المغاربة على الحركة الدوناتية (نسبة إلى الأسقف دونات)
المنشقة وأعطوا لكنيستهم المحلية صبغة قومية واضحة دون أي اعتبار لمفهوم
الكثلكة، أي الجماعة، محور كل مسيحية تكيفت مع واقع التفاوت الإجتماعي.- تسبب
الانشقاق الدوناتي مدة قرن كامل في مجابهات دموية كثيرة. قاد المعركة من الجانب الكاثوليكي أغسطين، متكلا
اتكالا كليا على السلطة المدنية ومستفيدا من الرعب الذي استولى على كبار الملاكين
بسبب ما احتوت عليه الحركة الدوناتية من أهداف ثورية إجتماعية. انتصر أغسطين سنة412 لكنه لم
يستلذ بالانتصار إلى مدة قصيرة. استولى على أفريقيا الشمالية سنة 439 الوندال الموالون لبدعة
أريوس فاستغلوا ضد الكاثولكيين تلك الوسائل العنيفة التي استعملها هؤلاء ضد
الدوناتيين. انتقمت الكنيسة الأفريقية لنفسها في النهاية، باستدعاء البيزنطيين
واعانتهم على طرد الوندال، لكن بعودة المنطقة إلى حظيرة الامبراطورية فقدت الكنيسة
الاستقلال الذي ما فتئت تحارب من أجله منذ أواسط القرن. - غير أن هناك نقطة منهجية
لابد من الإشارة إليها.
مهما كان ميل الدارس الذي يستخدم الوثائق
المسيحية، أكان مع الكثلكة يمجد الروح القدس، مثل كاركوبينو، او كان ضدها، أي ضد كنسية
الأساقفة الذين تنكروا لطموح المستضعفين، مثل كورتوا الذي استعار في هذه النقطة أحكام جوليان، الواقع هو أن ذلك
الدارس يرى المغاربة من خلال منظور الكنيسة كما رآهم غيره من منظور الإمبراطورية.
وتزداد صعوبة التأويل في المنظور الجديد لأن الوقائع لم تعد تلونها مصالح مادية
واضحة، بل مصالح أدبية خفية. - لذا كثرت المناقشات الحدة بين الباحثين، إذ قال
مؤرخ يساري إن المغاربة اعتنقوا المسيحية في القرن الثاني والدوناتية في القرن
الرابع تعبيراً عن معارضتهم للسلطة الرومانية، أجابه زميله المحافظ أن هؤلاء
(المعارضين) كانوا في معظمهم يسكنون المدن ويحيون حياة الموسرين من الرومان.
وإذا بحث آخر في كتابات ترتوليان وأغسطين
وأوبتات الميلي. للكشف عن خاصيات الذهنية البربرية، عارضة غير قائلا إن نسب هؤلاء
الرجال الأفذاذ غير محقق، وإن أي ثقافة دينية توحد عادة بين الأقوام والأجناس. لكي
نستخلص من أفكار ترلوليان أو
دونات الواقع المجتمعي والقومي في شمال افريقيا لا بد لنا من قفزة معرفية
لا نقدم عليها إلا إذا كنا مقتنعين مسبقا بوجاهة النظرية القائلة بأن الذهنيات
تحددها الماديات. وحتى في هذه الحال يدرك الواقع ادراكا عكسيا، أي يثبت وجوده
بانعدام أو تغير سواه. نضطر أن نؤرخ للكنيسة عامة قبل أن نستنتج بعض المعلومات حول
المغاربة المسحيين. والدليل على ما نقول هو التناقض الذي سقط فيه جان بيير بريسون
الذي توصل، انطلاقاً من الوثائق نفسها، إلى خلاصتين متعارضتين.
كتب سنة 1948( مجد ومآسي الكنيسة الأفريقية)، كله إشادة وإعجاب بها، وسنة1958 (المسيحية والنزعة
الاستقلالية في أفريقيا الرومانية) الذي تضمن عددا لا يحصى من الأحكام
السلبية. تحدثنا إذا كل وثائق الفترة الرومانية عن الإمبراطورية، إن الآثار كالطرق
والخندق والمعسكرات والأنصاب الميلية، إن المسكوكات المحلية الإمبراطورية، إن
النقوش الدينية والتذكارية والعقودية، كلها تبقى في نطاق الاحتلال الروماني. نعرف
جيداً حياة الملاكين العقاريين والتجار الاحتكاريين والأساقفة (وجميع هؤلاء
رومان)؛ نعرف حياة المدن بمن فيها من جنود ورقيق وخدم وصناع؛ أما الساكن الأصلي
فإننا نجتهد لنتخيله عاملاً فوق صيغة كبرى، مؤديا ضريبة كبرى، مؤديا ضريبة القمح،
محاصرا في الأوراس، طريدا وراء السد الأمني دون أن نراه أبداً رؤية واضحة مباشرة.
إننا سعداء بأن تكون الوثائق قد احتفظت بطل وجود المغربي فوق أرضه، لكن هذا لا
يجعلنا نرتدي لباسا خادعا ونملأ تاريخنا بمفاخر غيرنا. ( من كتاب مجمل تاريخ
المغرب للمفكر عبد الله العروي).
بقلم عزيز الصغيار