يستطيع القارئ، اعتماداً على ما قلنا
عن تنظيم الجيش الروماني، أن يتكهن بدور التجنيد في رومنة البربر وبدور افريقيا في
اقتصاد الامبراطور. يصلح كل جيش لإدماج أبناء الشعب في الطبقة الحاكمة بما يلقنهم
من انضباط وما يفرض عليهم من لغة وما يخولهم من امتيازات. كان الفرد من أهالي
أفريقيا يمنح، بعد أن يقضي خمس وعشرين سنة في الجندية، حق المواطنة الرومانية،
ويعطي، بصفته من قدماء المحاربين، قطعة أرض يستغلها داخل مستعمرة رسمية. هكذا كان
الجيش يورمن الناس ويعمر الأرض. - بعد
القرن الأول بعد الميلاد، الذي قام أثناءه الأباطرة الفلاقيون بإعادة تنظيم
الإدارة (مارسل لوغلي،
1968ص246-201)،. استطاع الجيش خلال القرن الثاني أن يوسع المنطقة الخاضعة
لحكم روما، خاصة في الجنوب الشرقي، متوغلا في الصحراء التي كانت آنذاك أقل جفافا.
وأصبح السد الأمني (اللميس)
وسيلة لتوسيع وتركيز عملية التعمير، هكذا يراه اليوم أغلب الباحثين، فيتسأل المرء
في هذه الحال :أولم يكن الهدف الأول منه هو تربية الجنود ليكونوا معمرين مخلصين
لأغراض روما؟
أثناء القرن الأول حظيت زراعة القمح
وحدها بتشجيع الإدارة، إذ كانت إيطاليا مكتفية بما ينتج من مواد أخرى. في القرن
الثاني بدأ المعمرون يغرسون الزيتون والعنب، مع مواصلة توسيع المساحات المبذورة
قمحا، في هضاب الجنوب الشرقي. اهتم الرومان بالشعير للعلف، واستغلوا فوق اللازم
الغابات لأنهم كانوا في حاجة إلى كميات هائلة من الخشب لتسخين الحمامات، مما أضر
كثيراً بالتربة والثروة النباتية.
لم يتفق الباحثون حول مستوى إنتاج
القمح في أفريقيا والنسبة المصدرة منه إلى روما. توصل جيلبير شاول بيكار إلى بعض
الأرقام، وشارل صوماني إلى أرقام أخرى، لكنهما يعترفان معا أن روما كانت تستغل
أفريقيا استغلالا لا مزيد عليه ولا تترك إلا السير لسد حاجيات الأهالي. ولم يتغير
هذا الوضع أثناء القرن الثالث
رغم ما لحق الحكم المركزي من ضعف، لأن حبوب أفريقيا أصبحت ضرورية لتزويد روما
بالمؤن بعد أن خصص إنتاج مصر، المقدر بنصف إنتاج أفريقيا، لتموين العاصمة الجديدة القسطنطنية، ولأن
زراعة صقلية دخلت في طور انحطاط ملحوظ. ولم يعرف المغاربة مهلة إلا حين كلنت تقطع
المواصلات مع إيطاليا كما فعل جيلدو نهاية القرن الرابع والوندال طوال القرن
الخامس.
يعطينا التشريع العقاري والجبائي فكرة
على الحالة الاجتماعية في أفريقيا. فنلاحظ مركزة(احتكارا) هائلة للملكية العقارية
بين يدي الامبراطورية وكبريات العائلات الأرستقراطية، (فإن نوستراند، الملكية الامبراطور في أفريقيا القنصلية،
1925).انتهزت روما كل حرب قامت بها، ضد قرطاج ويوغرثن ويبا الأول وتاكفارن وأيديمو، لتستولي
على أراض واسعة في ناميديا، أما موريتانيا فكانت المصادرات العقارية هي سبب الثورات
المتوالية، إستفاد من العملية أناس غرباء عن المنطقة أو أولدوا فيها ثم نزحوا عنها
أول ترقية في السلم الإداري. في الجزء الشرقي من المغرب. الذي عرف الحكم الروماني
منذ زمان طويل، كان يشرف على الضيع نظار ينظمون عمل الأقنان والمياومين. أما في
الجزء الغربي الذي ضم مؤخراً للأمبراطورية، فكان يسمح لرجال أحرار، ربما أصحاب
الأرض أنفسهم، بفلاحة الأراضي التي أصبحت عمومية (أراضيرالميري)، مقابل أداء الخراج. أما الملاكون
الأحرار ونصف الأحرار فكانوا يؤدون ضرائب، عادية وطارئة، زيادة على الخراج.
كان المزارعون يدفعون قسما من الضريبة
العقارية عنيا، لتزويد العاصمة بالحبوب ( يعرف باسم الأنونة). أثناء القرن الرابع استغل الملاكون الكبار ضعف السلطة المركزية
ونفوذهم في الإدارة المحلية، فتنصلوا من أداء واجبهم وتركوا الأنونة كاملة على
كاهل صغار المزارعين. كان إنتاج الحبوب كله في صالح روما، وكذلك كان التوزيع.
فتجارة القمح والزيت والخزفيات احتكرهارمواطنون رومان نظموا أنفسهم في جمعيات
حرفية تمكن الدارسون من وصفها وصفا دقيقاً.
يعطينا تحليل الشرع الروماني، مع أنه
يهم الامبراطورية كلها ولا يخص افريقيا وحدها، فكرة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية
في بلاد المغرب، خاصة القسم الشرقي الذي مكث طويلاً في قبضة روما. هذا الأمر لا
نزاع فيه. لكن يجب أن نحترز ونتجنب الأخطاء التي ارتكبها بعض الدارسين الذين لا
يضبطون قوانين الاقتصاد والذين لا يميزون بين الإنتاج والتجارة من جهة ومستوى
المعيشة من جهة ثانية. نذكر مثلاً على ذلك ما كتبه أوجين البيرتيني في مقاله (شهادة أغسطيس على ما تمتعت به
أفريقيا من رخاء نسبي في القرن الرابع، 1930)، واستشهاد كورتوا في كتابه (الوندال وأفريقيا)
بالقوانين الرأسمالية كما لو كانت تطبق مائة بالمائة على الاقتصاد القديم. يقول
:إن أفريقيا الرومانية كانت البلد المصدر للحبوب، مما يدل على أن الإنتاج فاق
كثيراً الاستهلاك. هذا خطأ واضح لأن أمثلة كثيرة بينت لنا أن البلاد المستعمرة ذات
الاقتصاد البسيط قد تعرف في الوقت نفسه فائضا مستمراً في الميزان التجاري وانخفاظا
مستمراً في مستوى معيشة الفرد. صحيح أن
النميات تدل على النقود كانت تصدر بكثرة من إيطاليا إلى أفريقيا، وتشير الآثار
الباقية على حياة بذج حتى في المدن المتوسطة. مع هذا قد تمثل هذه الأمور رومنة
سطحية لا علاقة لها بالأوضاع المادية والأدبية الحقيقية.
نستنتج من دراسة التشريع، الوضع النظري
الذي كان من الممكن أن يتمتع به الملاكون الأهالي والعمال المياومون، لكن هذا
تخمين وتكهن أكثر مما هو استنتاج مباشر. لا نملك أية وسيلة لنسمع رأي الأفارقة في
نشاط روما (التمديني)
،ذلك النشاط الذي يتعنى به البعض بدون أدنى تحفظ.
( من كتاب
مجمل تاريخ المغرب للمفكر عبد الله العروي).
بقلم عبد العزيز الصغيار