الفيزيولوجيا وعلم النفس


 

لقد سبق أن رأينا، بوجه عام الدور الذي لعبته الفيزيولوجيا، خصوصاً الفيزيولوجية العصبية في تكوين علم نفس تجريبي، لكن المشاكل التي كانت في الأصل، وراء ظهور هذه السيكولوجيا كانت على صلة بالإحساسات خصوصا.ويبدو أن دراسة السيرورات الأكثر تعقيداً يمكن أن تتعلق بالفرع الجديد هذا، على وجه خاص. إن التقدم الكثير الذي حققه الفيزيولوجيون قد أتاح للبعض منهم إمكانية ترقب أو التفكير في تطبيق مناهجهم، أو على الأقل من حيث الإمكانية في المستقبل، على الظواهر العقلية، وعلى التكيفات ذات المستوى الأعلى " في هذا المعنى كتب 'كلود برنار في خطابه الافتتاحي عند قبوله في المجمع العلمي الفرنسي سنة 1869 'تريد الفيزيولوجيا أن تفسر الظواهر العقلية بالطريقة نفسها المستخدمة في الظراهر الأخرى للحياة' وفي سنة 1903 تسأل الفيزيولوجي الروسي بافلوف أيضاً : ما هو السبب الذي يحمل على تغيير المنهج عند دراسة التكيفات ذات المستوى الأرفع، عاجلاً أم آجلا سيعمل العلم، مستندا إلى التشابهات في المظاهر الخارجية على نقل المعطيات الموضوعية المستحصل عليها، إلى عالمنا الذاتي، وهذا العلم عندما ينير فجأة وبقوة طبيعتنا الغامضة جدا فإنه سيوضح الأوالية والمعنى الحقيقي لما يشغل بال الإنسان أكثر من أي شيئ آخر، يعني، وعيه...

 يشكل عالم بافلوف (1949-1936)،من وجهة منبعة، مثالاً جيداً على رد فعل العالم الفيزيولوجي إزاء الذاتية وإزاء المذهب صرفة. وساعد عمل بافلوف بحكم نموه على تزويد علم النفس الموضوعي بمفهوم ثمين هو الانعكاس الشرطي :عندما نقرن مثيراً ما اصطناعيا (ضوء، صوت، الخ.) بمثير طبيعي لانعكاس ما (الأطعمة بالنسبة إلى فرز العصارة المعدية، مثلا) يصبح هذا المثير المصطنع (الضوء أو الصوت المستعملان) قادراً، بعد مدة من الزمن على إحداث الانعكاس بغياب المثير الطبيعي. تدل الانعكاسات المشروطة على نمط عال من التكيف مع المكان :فالظروف عندما اقترانها بتغير ما، تستخدم كإشارة عند تكرارها ثانية لتدل على تكيف فيزيولوجي متناسب مع هذا التغير. وبالنسبة إلى الإنسان، تشكل اللغة نظامها ثانيا من التشوير [اللجوء إلى الإشارات] يمكن أن يحل محل الإحساسات المباشرة (النظام الأول) وبالتالي يوسع كثيراً مجال نمط تكيف، ومن وجهة نظر تقنية يمكن المنهج بصورة موضوعية من معرفة قدرة الإنسان والحيوان على التمييز بين منبهين :وعندما يجب أن يستعمل أحدهما كإشارة على الانعكاس المشروط، في حين يبقى الآخر بدون مفعول.التشبيهي [بالإنسان]، في التفسيرات التي يمكن أن تقدمها سيكولوجيا مؤسسة على الاستبطان - الذي هو بالضرورة خاصية إنسانية

 في سنة 1897، وبمناسبة دراسة حول الهضم، لا حظ بافلوف أن وقع خطوات خادم المختبر عندما كان يجلب الطعام للكلاب المستعملة كمواضيع للتجربة، كان كافيا لأن يبعث لدى هذه الكلاب إفراز العصارة المعدية وهذا ما سماه حينذاك ب "الافراز النفسي". ثم شرع بافلوف يدرس ذلك دراسة نظامية [نسقية] ،سنة 1900 محاولا تفسير الظاهرة هذه. وقام ضد رأي مساعدة سنارسكي، في 1901،الذي اقترح تفسيرات وصفها بافلوف بأنها 'نفسانية' (والأولى القول بأنها ذاتية ومشبهة للإنسان) مذكرة أو مشيرة إلى 'رغبات' أو عواطف عند الكلب. وانفصل بافلوف عن مساعدة إذ ظل على الصعيد الفيزيولوجي مستندا ومتذرعا بالارتباطات العصبية المستقرة في القشرة الدماغية للكلب عن طريق التداعي بين صوت الخطوة وهضم الوجبة المقدمة له. وفي سنة  1903قدم بافلوف اكتشافه إلى المجمع الطبي في مدريد  وابتداءبدأ من سنة 1905 بدأ هو  وتلامذته يتفرغون لسلسلة من الأعمال التجريبية حول الانعكاس الشرطي، دراسا شروط تكوينه وانطفائه، ثم تعميمه وتخصيصه، وأخيراً التداخل بين انعكاسات عدة الخ. وفي سنة 1923،صدر كتاب بافلوف المعنون :' عشرون سنة من التجارب حول دراسة الموضوعية للنشاط العصبي العالي عند الحيوانات' واحتفظ الكتاب بعنوان إبان طبعه عدة مرات، وفي سنة 1927 ترجمت إلى الفرنسية طبعة سنة 1921 بعنوان، الانعكاس المشروطة '.

 وفي سنة 1927 ظهر أيضاً كتاب دروس حول نشاط الغشاء الدماغي. وظهر مفهوم النظام [النسق] الثاني للتشويرات سنة 1934 في مقال عن الانعكاس المشروط. كتب (الموسوعة الطبية الكبرى). ويمكن التقريب بين هذا المفهوم لدور اللغة وبين المقطع التالي الذي كتبه بينيه في الدراسة التجريبية للذكاء، سنة 1903 وهو يجب أن نفهم بالإثارة ليس فقط دغدغة أعضاء الحواس بعامل مادي، بل وأيضا كل تغيير نحدثه نحن، التجربيين، عن قصد في وعي العميل الموضوع تحت التجربة، وهكذا تعتبر اللغة بالنسبة إلى العالم النفسي مثيرا أثمن بكثير، بل سأقول مثيرا هو بدقة أرهف من دقة المثيرات الحواسية، فاللغة يمكن أن تعطي للتجريب السيكولوجي اتساعا ضخما ومدى فسيحا. يمكن الإلماج، إلى جانب بافلوف إلى اسم عالم أعصاب وطبيب عقلي روسي هو بيسشتيريف(1857-1927)الذي اشتغل مع فونت في ألمانيا، ومع شاركو في باريس.

كتب هذا عدة مؤلفات في علم الأعصاب وفي علم النفس، وأسهم في كتابة عن السيكولوجيا المتعلقة بالانعكاسية، في تغذية تيار الأفكار الرامي إلى جعل السيكولوجيا علما موضوعيا. كما ظهر اهتمام الفيزيولوجيين بالمسائل السيكولوجية أيضاً، في فرنسا، في بداية العصر، وبذلت العناية الصارمة عينها بالموضوعية التجريبية الدقيقية. فقد ترك بوني منبره في كلية الطب في نانسي سنة 1889ليدير مختبر السيكولوجيا التجريبية في السوربون. وشجع داستر تلميذ بيرون على الربط بسن بإحكام أكثر بين الفيزيولوجيا وعلم النفس، وقاد أعمالاً حو الانعكاسات النفسية ونشر مالوازيل حول هذا الموضوع، سنة 1905 أطروحة مهمة. وقد أجرى هذا أبحاثة في الوقت ذاته لأبحاث بافلوف وبشكل مستقل وخصص أ. غلي حامل درجة الأستاذية في الفيزيولوجيا، أبحاثه حول تأثير العمل الفكري أما ريشه فسيكولوجي بقد ما هو فيزيولوجي.

 

 الباحث عزيز الصغيار

تعليقات