الانثروبولوجيا


أنثربولوجيا كلمة ليست منحدرة من اللغة اليونانية الكلاسيكية. صحيح ان أرسطو يستعمل الكلمة (أنثربولوجس). لكن بين القرن السادس عشر والثامن عشر تطور معنى الكلمة إلى معنى :"علم النفس الإنسانية"، كما نجد ذلك خصوصاً عن من كتبوا في الفلسفة من الألمان امثال
Hundt و Cassman وصارت تدل على عنوان علم فلسفي، لا يقتصر على البحث في النفس الإنسانية وحدها، بل يمتد إلى مسائل تتناول أحوال الجسم الإنساني، مثل :الجنس (ذكر و أنثى)، العمر، المزاج، الأخلاق، العرق، الخ. ومن هنا نجد Walch يقول أن الأنثربولوجيا هي العلم بالإنسان... ويتألف من قسمين :فزيائي' ومعنوي ' ثم جاء "كنت" فعرف الأنثربولوجيا بأنها مذهب في معرفة الإنسان مؤلف بشكل تنظيمي

 و الانثروبولوجيا يمكن النظر إليها من الناحية الفسيولوجية، ومن الناحية العملية، فمعرفة الإنسان من الناحية الفسيولوجية تتناول البحث فيما صنعته الطبيعة بالإنسان، ومن الناحية العملية (البرجماتية) تتناول البحث صنعه الإنسان بنفسه في نفسه بوصفه كائناً حرا أو ما يقدر أن يفعل او ما ينبغي أن يفعله في نفسه.

 وقد عنون كتابه باسم :الانثروبولوجيا من الناحية البرجماتية " ،ونشره في كينجسبرج، وفصوله تتناول شعور الإنسان بنفسه (الوعي) - الحواس في مقابل العقل - في قوة التخيل - في الذاكرة والتذكر - في ملكة المعرفة بوصفها تستند إلى العقل-في أمراض النفس وأنواع ضعفها-في المزاج (بالحاء المهملة).

وفي القسم الثاني من الكتاب يتناول:الشعور باللذة والألم-الشعور بالجمال - التذوق الفني. وفي القسم الثالث يتناول العواطف والآلام - وفي النصف الثاني من الكتاب يبحث في الخصائص الانثروبولوجية فيتناول: خلق الشخص - الفطرة - المزاج - الخلق بوصفه لونا من التفكير - الفراسة - أخلاق الجنس - أخلاق الشعب - أخلاق الأجناس العنصرية. ومن استعراض هذه الموضوعات يتبين أن الانثروبولوجيا عند "كنت" علم يتناول مزيجا من علم النفس وعلم الطباع وعلم الأجناس والشعوب. وجاء هيجل فهاجم هذه النظرة إلى الانثروبولوجيا، لأنه رأى ان موضوعها هو ما سماه (الروح الذاتية) وأدرجها في داخل فلسفة التاريخ، وبرأيه هذا سيأخذ Erdman ثم مشيليه الذي رأى أن فلسفة التاريخ نظرية في الواقع الإنساني بوجه عام. في مواجهة هذا يقرر "دلتاي" أن الأنثربولوجيا ينبغي عليها أن تتخلص من فلسفة التاريخ، وألا تعود إلى النظرة الطبيعية الإنسانية، لأن هذه هي باستمرار، وعلى الأنثربولوجيا أن تبحث عن 'الأنماط' في الطبيعة الإنسانية بوجه عام.

 ومن هنا نرى في القرن العشرين صراعاً بين فلسفة التاريخ وبين الأنثربولوجيا الفلسفية، فالآخذون بالأولى ينكرون الثانية، نجد ذلك عند" هيدجر " في كتابه عن 'كنت' والميتافيزيقا :إذ يهاجم فكرة الأنثربولوجيا الفلسفية. ويقول في موضع آخر أن الفلسفة، حين تصير أنثربولوجية تنهار، كذلك وفي الطرف المضاد من ذلك - يهاجمها لوكاش "الماركسي فيتحدث عن الخطر العظيم الذي تؤدي إليه كل وجهة نظر أنثربولوجية ويقول أن تحويل الفلسفة إلى انثربولوجية قد حجر الإنسان إلى موضوع، وبهذا ألقى بالديالكتيك والتاريخ جانباً (راجع كتابه التاريخ والوعي الطبقي).

 لقد رأى  هيدجر (كنت ومشكلة الميتافيزيقا) وما بعدها، فرانكفورت) أن الأنثربولوجيا كما عرفها كنت تشمل النظر في أحوال الإنسان البدنية والبيولوجية والنفسية، وهي بذلك :علم نفس، وتحليل نفسي، وعلم أجناس، وعلم نفس تربوي، ومورفولوجيا الحضارات وعلم أنماط النظرات في العالم - في وقت واحد معا.

 وهذا أمر غير مقبول سواء من حيث المضمون، ومن حيث وضع المسائل، والتأسيس، والغرض من العرض وشكل التعبير، ولن يؤدي مثل هذا النظر الشامل إلا إلى التشويش والفوضى... والأنثربولوجيا لم تعد منذ زمان طويل مجرد عنوان على علم، بل تدل على موقف أساسي للإنسان تجاه ذاته وتجاه الموجود كله. ان الأنثربولوجيا لا تبحث في الإنسان فقط، بل تسعى اليوم إلى تحديد ماهي الحقيقة بوجه عام، إنه لم يوجد عصر عرف عن الإنسان مثلما عرف عصرنا، لكن لايوجد عصر لم يعرف ما الإنسان مثل عصرنا الحاضر، ولم يصبح الإنسان موضوع التساؤل بالقدر الذي صار به في عصرنا الحالي.

 لكن ألا يمكن بذل المجهود لتكوين انثربولوجيا فلسفية حقه؟ إن ماكس شلير"-هكذا يقول هيدجر-قد تكلم عن هذه الأنثربولوجيا الفلسفية قال :يمكن أن يقال أن كل المشاكل المركزية في الفلسفة في الفلسفة يمكن أن ترد إلى مسألة :من الإنسان؟ وما مكانته الميتافيزيقية داخل حدود كل الوجود، وبالعالم، والله (ماكس شيلر:مكانة الإنسان في الكون) لكن شلير أدرك بثاقب نظره أنه لايمكن إدراج الإنسان تحت تعريف مشترك '' ذلك أن الإنسان هو من السعة والتنوع والتعدد بحيث يعجز أي تعريف عن الوفاء بتحديده، إن له غايات متعددة جدآ.

وينتهي هيدجر إلى القول بأن من الممكن مع ذلك، وضع انثربولوجيا فلسفية من حيث أن منهجها فلسفي، ويكون موضوعها هو وضع نظرة في ماهية الإنسان، وتريغ إلى تمييز وجود النبات والحيوان وسائر مناطق الوجود، وعلى هذا النحو تصبح الأنثربولوجيا الفلسفية انطولوجيا إقليمية تتعلق بالإنسان، إلى جانب سائر الانطولوجيا التي تتناول ميدان الموجود-كذلك يمكن الأنثربولوجيا أن تكون فلسفية إذا جعلت موضوعها "تحديد مكانة الإنسان في الكون'.  ذلك هو المعنى الحقيقي - والوحيد الصحيح-للأنثربولوجيا.

 أما ما يسميه علماء الاجتماع المعاصرون بهذا الاسم، فلا شأن له بالانثروبولوجيا بالمعنى الصحيح، إنما هو سوء استعمال منهم لهذا اللفظ، مهما ميزوه أحياناً بالوصف :(انثروبولوجيا) اجتماعية. ( من موسوعة فلسفية الجزء الثاني للدكتور عبد الرحمن بدوي).



 بقلم عزيز الصغيار

                                                                                          

تعليقات