برجسون الفيلسوف الفرنسي يدرس معنى
الحياة في إطار نظرية التطور كما سيحدده هو، لا كما حدده اسبنسر ودارون. وهذا هو موضوع كتابه الرئيسي
بعنوان "التطور الخالق" وفيه يبين أن الذكاء تكون
متواصل على طول خط يتصاعد خلال الحيوانات الفقرية إلى الإنسان، وأن ملكة الفهم وهي
ملحقة بملكة الفعل، هي تكيف تزايد في الدقة والتركيب والمرونة لشعور الكائنات
الحية مع ظروف الوجود المهيأة لها، ومن هنا فإن الذكاء (العقل) وظيفته هي غمس الجسم الوسط الذي يعيش فيه
وامتثال العلاقات الخارجية بين الأشياء بعضها وبعض والتفكير في المادة.
"والذكاء (العقل) الإنساني
يشعر بأنه في داخل بيته طالما يترك بين موضوعات جمادية، وعلى الأخص بين الجوامد
حيث يجد فعلنا نقطة ارتكازه وتجد صناعتنا آلاتها المهيئة للعمل، وحيث تكونت
تصوراتنا العقلية على صورة الجوامد، ولهذا السبب فإن ذكاءنا (عقلنا) ينتصر في
ميدان الهندسة، وحيث تتجلى القرابة بين الفكر المنطقي والمادة الجمادية وحيث ليس
أمام الذكاء (العقل) إلا أن يتبع حركته الطبيعية بعد أخف اتصال ممكن مع التجربة،
ابتغاء أن يسير من اكتشاف إلى اكتشاف آخر، مع اليقين بأن التجربة تمشي وراءه
وتعطيه الحق دائماً. ولهذا السبب فإن عقلنا غير قادر على إدراك الطبيعة
الحقيقية للحياة والمعنى العميق لحركة
التطور. وأن له أن يدك الحياة، وما هو إلا جزء منبثق عن الحياة، خلقته الحياة في
ظروف معينة؟ لو كان ذلك في مقدوره لكان معناه أن الجزء يساوي الكل، والمعلول يمكن
أن يمتص علته، والجاز أن يقال ان المحارة ترسم شكل الموجة التي حملتها إلى الشاطئ.
والواقع أننا نشعر بأن كل مقولاتنا العقلية لا
تنطبق على الحياة: من وحدة وكثرة، وعلية آلية، وغائية ذكية، وعبثا نحاول أن نولج
ماهو حي في الإطار أو ذاك، فإن كل الاطارات تنكسر، لانها ضيقة جداً، قاسية جداً
خصوصاً بالنسبة إلى مانريد إدخاله فيها. لكن هل معنى هذا أنه ينبغي علينا أن نتخلى
عن إدراك الحياة، وأن نقتصر على التصور الميكانيكي الذي يزودنا به العقل؟ كان هذا سيكون هو الوضع، لو أن الحياة اقتصرت على
اعداد مهندسين، لكن خط التطور الذي يفضي إلى الإنسان ليس هو الوحيد. بل ثمت أشكال
أخرى من الشعور متفاوتة، لم تستطع التجرد من ألوان القسر الخارجية ولا أن تتغلب
على نفسها، كل فعل الذكاء (العقل) الإنساني، لكنها برغم ذلك تعبر هي الأخرى عن أمر
باطن وجوهري في الحركة التطورية.
هذه الأشكال الأخرى من الشعور، إلى
جانب العقل، هي بمثابة قوى مكملة له، وهي قوى ليس لدينا عنها غير شعور غامض مشوش
"حين نبقى منغفلين في داخل انفسنا، لكنها ستتضح وتميز حين تبصر نفسها وهي
تعمل في تطور الطبيعة.
هنالك تدرك أي مجهود عليها أن تقوم به من أجل أن
تتزايد شدتها من أجل أن تنتشر في اتجاه" الحياة" ومعنى هذا أن نظرية
المعرفة لا تنفصل عن نظرية الحياة. لأن اية نظرية في الحياة لا تكون مصحوبة بنظرية
في المعرفة ستظطر إلى أن تقبل - علاتها-التصورات التي يقدمها لها الذهن أي أن تحبس
الوقائع، قهراً أو طواعية، في اطارات موجودة من قبل، تعدها نهائية.
لكن هذا يؤدي رمزية ربما كانت مفيدة للعلم، لكنه
لن يؤدي إلى رؤية مباشرة لموضوعها. ومن ناحية أخرى فإن نظرية المعرفة، لاتضع العقل
في داخل التطور العام للحياة، لن تخبرنا كيف تكونت اطارات المعرفة وكيف نستطيع
توسيعها أو تجاوزها، فلا يمكن اذن فصل نظرية المعرفة عن نظرية الحياة، ولا هذه عن
تلك. فإن بحثنا الآن في تطور الحياة لوجدنا أنه يكشف عن الخصائص التي تعرفناها في
المدة هي :استمرار التغير، الاحتفاظ بالماضي في الحاضر، الخلق المستمر لأشكال
جديدة.
وتفسير التطور الحيوي لا يمكن أن يتم عن طريق الفرض
الميكانيكي الذي تصوره اسبنسر. لأن الحياة ليست ممكنة إلا إذا كانت التغيرات التي
بها تتحقق الحياة متناسقة فيما بينها، ومتوائمة مع الوسط المحيط بحيث لا يحدث خلل
في توازن الكائن ولا في أحوال تكيفه مع ظروف الوجود . كما أن التطور يكشف عن قوة
اندفاع.لكن هذا الاندفاع لا تحكمه خطة غائية، لأن الأنواع الحيوانية لا تنتج عن
صناعة تركب مواد، بل تكشف عن عضوية يتم تكونها ابتداء من جرثومة.
وتطور الحياة لا يسير في مسار وحيد،
كمسار قذيفة يطلقها مدفع، بل هو شبيه بما يحدث لقنبلة يلقي بها إنسان فتشتت أباديد
في كل اتجاه على هيئة شذرات. والقنبلة حين تنفجر فإن تشذرها الخاص بها يفسر بالقوة
الانفجارية للبارود الذي تحتوي عليه بالمقاومة التي يبديها المعدن معا. كذلك الحال
في تشذر الحياة إلى أفراد وأنواع. ومن رأينا أن هذا التشذر يرجع إلى سلسلتين من
الأسباب :المقاومة التي بها الحياة من جانب المادة الغليظة، ثم القوة الانفجارية
التي تحملها الحياة في داخلها، وهي ترجع إلى توازن للميول غير مستقر. وكان على
الحياة أن تتغلب أولاً على مقاومة المادة الغليظة. ويبدو أن الحياة أفلحت في هذا
الأمر، بفضل تواضعها وتذللها، بأن تصاغرت جداً وتضرعت جدا متمسكة للقوى الفيزيائية
والكيميائية راضية بأن تقطع معها شطرا من الطريق مثل محول السكة الحديدية حين
يتخذ، لبضع لحظات، اتجاه الخط الحديدي الذي يريد أن ينفصل عنه، ولا نستطيع أن نقول
عن الظراهر الملاحظة في الأشكال الأولية جداً للحياة هل هي فيزيائية كيماوية، أو
حيوية فعلاً، وهكذا كان على الحياة أن تدخل في عادات المادة الغليظة كي تجر على
طريق آخر وتدريجيا تلك المادة الممغطسة. فكانت الأشكال المتنفسة في البداية مفرطة
البساطة. إنها كانت من غير شك قطعاً صغيرة من البرتوبلاسمات الضيئلة التفاضل،
الشبيهة في خاجها بالأمبات التي نشاهدها اليوم، لكن مع قوة اندفاع باطنة هائلة
مكنتها من الارتفاع إلى الإشكالات العليا للحياة.
اما أنه بقوة هذا الاندفاع سعت الكائنات العضوية
الأولى إلى النمو بأسرع ما يمكن، فهذا يبدو لنا محتملا، لكن للمادة العضوية حدا
للاتساع تبلغه بسرعة. انها تزدوج أولى من أن تنمو إلى ما بعد نقطة معينة، ومما
لاشك فيه أنه كان لابد من قرون من الجهود وأعمال خارقة في الدقة، من أجل أن تتغلب
الحياة على هذه العقبة الجديدة ولعدد متزايد من العناصر المستعدة للازدواج حصلت
على أن تبقى هذه العناصر متحدة.
وبتقسيم العمل عقدت بينها رابطة لا
تنحل، لكن الأسباب الحقيقية العميقة للتقسيم كامت تلك التي حملتها الحياة في
داخلها لأن الحياة ميل، وماهية الميل أن ينمو على شكل باقة، خالقة، من مجرد نموها،
اتجاهات متباينة تتوزع فيما بينها سورتها، وهذا ما نلاحظه نحن (بني الإنسان) على
أنفسنا في تطور هذا الميل الخاص الذي نسميه الخلق. فكل واحد منا، إذا ألقى نظرة
ورائية إلى تاريخ حياته، يشاهد أن شخصيته هو طفل، على الرغم من أنها لا تقبل
القسمة، فإنها تجمع في داخلها أشخاصاً متفاوتين كان من الممكن ان يبقوا مصهورين
معا لأنهم كانوا في حالة نشوء. وهذا التردد الحافل بالوعود هو أحد ألوان سحر
الطفولة. ("التطور. الخالق") ويستمر برجسون في بيان
تطور الحياة، مستخدما صورا وتشبيهات شعرية، مما باعد بينه وبين اللغة العلمية
الوثيقة التي استعملها البيولوجيون، وهو أمر جعله هدفاً سهلا لسهام خصومه. (من
موسوعة الفلسفة للدكتور عبد الرحمن بدوي).
بقلم عزيز الصغيار